الدكتور علي المر – سبق الإخباري
منذ 10 سنوات أستعمل دواءً لتخفيف أعراض مزعجة لمرض السكري (خدران وحرقة شديدة في الأطراف). ولقد أصبح الحصول على الدواء صعبًا جدًا هذه الأيام (إذا تجنبنا القول: شبه مستحيل!).
في العيادات يمنع صرفه من غير طبيب اختصاص. وفي الصيدليات يمنع صرفه بغير وصفة حديثة. وإذا نفد دواؤك ،لأي سبب: كأن تتأخر عن موعد، أو ترك طبيب أو سافر، أو أجيزت طبيبة للولادة… تتحمل الوجع ومضاعفات المرض حتى يحين موعدك مع طبيب جديد وموعد جديد (وجميع هذه الحالات حصلت معي). وحتى في المطارات يوقفونك (أو يسألونك) إذا وجدوه في أمتعتك دواء الأعصاب؟ وحتى الأجهزة يبدو مبرمجة لتكشف إن كان معك دواء أعصاب. ولقد بت أتساءل لماذا هذه الحالة التي تشبه الرعاب (أو الفوبيا) من دواء الأعصاب؟ هل هنالك حملة عالمية، للتحكم بصرف هذا الدواء؟ أم بسبب مشكلات في سوء استخدامه كما يقال؟
وسواء محلية أو عالمية: ألا يمكن أن تتسبب هذه التقييدات والتعقيدات في ظهور سوق سوداء لهذا الدواء، ثم يباع بأسعار مضاعفة ونوعيات رديئة تصنع خصيصًا؟ فنقع في مشكلة أخرى أكثر تعقيدًا؟
وإذا كان الأمر كذلك، أو غير ذلك: هل اتخذ قرار تقييد صرف الدواء، بناء على دراسة علمية مكتملة الشروط والأركان للحالة الأردنية ؟ أم هي فكرة مسؤول، ونتاج دراسة منقولة أو منقوصة لم تأخذ بالحسبان كل العوامل المحيطة؟ فبدلًا من علاج مشكلة أصبحنا نعاني من تأثير ما يشبه “رعاب الدواء الأعصاب” وما تجره من خسائر للفرد والمجتمع وحتى الدولة.
كنت، كمريض سكري، لا أجد مشكلة في صرف هذا الدواء من أي صيدلية إذا نقص عندي لأي سبب. وكنت أصرفه مع وصفة عيادة السكري. وقبل أشهر (في تموز) رفضت العيادة صرفه لي، وطلبوا مني مراجعة عيادة الأعصاب، في نفس المركز؛ فسارعت إليها، في نفس اللحظة، لأنه لا يوجد عندي دواء، ومن دور إلى دور وطابور إلى طابو؛ فقد انتهى الدوام. وكان أقرب موعد للعيادة بعد خمسة ـشهر ونصف (في 31/12/2024). وهنا ظهرت مشكلة كبيرة؛ أنني لم أتمكن من الحصول على الدواء من أي مكان، فاضطررت لأخذ موعد في مستشفى الجامعة الأردنية، بتاريخ 1/9/ 2024.
ذهبت مبكرًا، في الموعد المحدد (الساعة 8 صباحًا) ووجدت أعدادًا كبيرة من المراجعين (أممًا أمثالكم). وأثناء الانتظار شعرت بأعراض هبوط السكر في جسمي. فتوجهت إلى المصاعد بسرعة، لكي أذهب إلى السوق في الطابق الأرضي، لأشتري بعض الحلوى. فوجدت المصاعد مشغولة وحشود المراجعين ينتظرون في أبوابها. فخشيت أن يهبط السكر إن انتظرت أكثر فرأيت استخدام الأدراج؛ ولقد استغرقني بعض الوقت، في صعود الأدراج والذهاب إلى السوق والتجول فيه والوقوف في الدور والمحاسبة، كان هاجس دخولي في إغماءة هبوط سكر يشغل بالي وتفكيري! ولكن الله سلم.
عدت إلى العيادة، بعد أن التهمت علبة عصير، وقد مضى حتى اللحظة أكثر من ساعتين؛ واستقبلني طبيبان (أحدهما تبدو متعلمة) فأخبرتهما أنني فقط أريد وصفة حتى أتمكن من صرف ما يكفيني من الدواء، حتى موعد مراجعتي في مركز السكري بعد أربعة أشهر. فأعطاني ثلاث وصفات لثلاثة أشهر فقط. وهذا يعني أن علي أن أعود مرة أخرى للعيادة لأحصل على دواء لشهر 12؛ وأمر بنفس الحالة.
عند شباك تسعيرة الدواء، وبعد وقفة طويلة على الدور، علمت أن علي أن أتوجه لصيدلية أخرى (على اليمين في آخر (الكريدور) كما قيل لي؛ متخصصة في دواء الأعصاب (هكذا فهمت) فشعرت بنوع من رعاب الأعصاب إن جاز التعبير (فيكفي أنك تذهب لصيدلية مخصوصة وبعد كل هذا العناء)!
هناك وجدت دورًا طويلًا؛ فانتظرت وأنا أشعر بإعياء وأعراض هبوط السكر مرة أخرى. وكان قد بقي معي نصف قضيب شقلاطة أقضم منه قليلًا كل لحظة. ثم فجأة أخذ طفل (تحمله امرأة تقف أمامي في الدور) يصرخ ويتلوى، وهي تحاول تسكيته ولم يسكت، فقسمت نصف الشقلاطة ومددتها إليه، وأنا متردد، فقد يطول الدور ويهبط السكر؛ وصراخ الطفل أهون من إغماءة السكر.
سعَّرت الدواء، وذهبت للدفع، ولكن عند محاسب، في الجهة المقابلة؛ والأجدر أن يكون في نفس المكان. ووجدت دورًا كذلك. ولما وصلت قلّب أوراقي وسأل: أين القصاصة (سليب)؟ قصاصة ماذا؟ قصاصة صرف الدواء؟ فعدت إلى شباك التسعير، لأحضر قصاصة الصرف، ولم أجد المُسعِّرة. فانتظرت حتى عادت ووجدتها على مكتبها. ثم عدت للمحاسب ثم رجعت إلى الصيدلية، ووقفت على الدور طويلًا أنتظر تجهيز الدواء؛ ولقد تفاجأت (أو انفقست) عندما مدت عليَّ علبة دواء واحدة تكفيني لشهر واحد؛ يعني عليَّ أن أعود مرتين أخريين لأصرف علبة في كل مرة، ومرة رابعة أراجع العيادة ليجيزوا صرف الدواء، لحالة مرضية مستمرة منذ ما يزيد عن عشر سنوات، ومريض طاعن في السن (يفترض أن يتلقاه في البيت)!
وكانت حصيلة يومي قضاء 3 ساعات ونصف في المستشفى، يعني يوم عمل كامل لمن يعمل (وكلنا له عمل)، ودفع مبلغ 14 دينار أجرة سيارة أوبر، ذهابًا وإيابًا، وعصير وحلوى؛ كل ذلك بدل 80 فرشًا فقط هي تسعيرة الدواء (بعد التأمين). يعني خسارة مباشرة قريبة من 13.5 دينار زيادة على سعر الدواء المدفوع، حوالي 20 ضعف الثمانين قرشًا! وأكثر من ثلاث ساعات أمضيتها، بين جلوس ووقوف وتنقل؛ وما رافق ذلك من تعب وإعياء، وأنا في سن الخامسة والسبعين، ومريض مفاصل وأخرى؛ وسط حشود كبيرة من المراجعين، يملؤون أماكن الانتظار والردهات والعيادات والمصاعد والمختبرات، والسوق والحمامات.. حتى كنت أشعر بضيق في التنفس بسبب نقص الأكسجين ورداء الهواء من كثرة المراجعين. فكنت أتنحى بعيدًا عن مواقع الانتظار المكتظة.
ولو قسنا ذلك على جميع مرضى السكري في المملكة، وعلى جميع المشافي، والصيدليات والعيادات…، وقدرنا الكلف، المباشرة غير المباشرة، الوقت والجهد والمال وإشغال الطرق وازدحام الشوارع، واستهلاك السيارات وكلفة الحوادث والمخالفات الممكنة واستهلاك الشوارع والمصاعد ودورات المياه، وأجور عمال النظافة، والمستهلكات الطبية والصحية والماء وكلفة البنزين وتأثيره الضار على البيئة… ووقت الأطباء والممرضين والصيادلة والمحاسبين، ووقت المراجعين وكلفة تعطيل أشغالهم … الخ، فإن الكلفة التي يدفعها المريض وتدفعها الدولة، لقاء الحصول على علبة دواء واحدة، تسعيرتها أقل من دينار، ستزيد عن عشرات الدنانير! وربما مئات الدنانير باعتبار المعاناة النفسية والتعب الجسماني للكبار ومرضى المفاصل، ومخاطر حوادث الطرق، ومجازفات نقل الأمراض في مواقع التجمع والانتظار؛ وأذكر على سبيل المثال أنني زرت أحد المستشفيات فنقلت عاملًا ممرضًا ألزمني المبيت 21 يومًا في مستشفى آخر!
ربما ليس جميع المراجعين يراجعون لنفس السبب؛ ولكن الصحيح أيضًا أنهم كلهم مرضى أعصاب وكلهم معرضون لنفس المعاناة والخسائر؛ وأن أي نسبة من هذا العدد من المرضى تتسبب خسارة كبيرة، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة؛ والصحيح أبضًا أن ما تواجهه الدولة هو حصيلة أخطاء هنا أو هنالك.
ونعود للسؤال الأول: هل، بعد هذا الوضوح: اتخذ قرار تقييد صرف دواء الأعصاب بناء على دراسة للحالة الأردنية؟ وهل روعيت كل النواحي، المعاناة والكلف المباشرة وغير المباشرة، النفسية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية… قبل إصدار قرار التقييد؟ أم هل حصلت أضرار بسبب صرفه بالطريقة الميسرة التي كانت متبعة سابقًا أكثر من كلفة الحصول عليه بالطريقة المقننة الحالية، إذا سميناها مقننة، فقررنا تقنينه؟ كم حالة سوء استخدام مثلًا وقعت في السنة كي يرهق ألوف المرضى والأسر وتعطل المصالح والأشغال وترهق الدولة بكاملها؟ أم هي مجرد فكرة عابرة من مسؤول؟ أم نقل عن تجارب دول أخرى كان يقع فيه ضرر جسيم فأقدمت على تقنين صرفه وليس بالضرورة تعكس الحالة الأردية؟
سؤال: برسم الإجابة في هذه الحالة كما في كل حالة!